سورة الأعراف - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{فأنجيناه والذين مَعَهُ} أي من آمن به {بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} الدابر الأصل أو الكائن خلف الشيء، وقطع دابرهم استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} فائدة نفي الإيمان عنهم مع إثبات التكذيب بآيات الله الإشعار بأن الهلاك خص المكذبين. وقصتهم أن عاداً قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت، وكانت لهم أصنام يعبدونها صداء وصمود والهباء، فبعث الله إليهم هوداً فكذبوه فأمسك القطر عنهم ثلاث سنين. وكانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج منه عند بيته الحرام فأوفدوا إليه قيل ابن عنز ونعيم بن هزال ومرثد بن سعد وكان يكتم إيمانه بهود عليه السلام وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوز بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر، فنزلوا عليه بظاهر مكة فقال لهم مرثد: لن تسقوا حتى تؤمنوا بهود فخلفوا مرثداً وخرجوا فقال قيل: اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه منادٍ من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك، فاختار السوداء على ظن أنها أكثر ماء فخرجت على عاد من وادٍ لهم فاستبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا.
{وإلى ثَمُودَ} وأرسلنا إلى ثمود. وقريء {وإلى ثمودٍ} بتأويل الحي أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر، ومنع الصرف بتأويل القبيلة، وقيل: سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام {أَخَاهُمْ صالحا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} آية ظاهرة شاهدة على صحة نبوتي فكأنه قيل: ما هذه البينة؟ فقال: {هذه نَاقَةُ الله} وهذه إضافة تخصيص وتعظيم لأنها بتكوينه تعالى بلا صلب ولا رحم {لَكُمْ ءايَةً} حال من الناقة والعامل معنى الإشارة في {هذه} كأنه قيل: أشير إليها آية ولكم بيان لمن هي له آية وهي ثمود لأنهم عاينوها {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله} أي الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فذروها تأكل في أرض ربها من نبات ربها فليس عليكم مؤنتها {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} ولا تضربوها ولا تعقروها ولا تطردوها إكراماً لآية الله {فَيَأْخُذَكُمْ} جواب النهي {عَذَابٌ أَلِيمٌ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ} ونزلكم، والمباءة المنزل {فِى الأرض} في أرض الحجر بين الحجاز والشام {تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا} غرفاً للصيف {وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتًا} للشتاء، و{بُيُوتًا} حال مقدرة نحو (خط هذا الثوب قميصاً) إذ الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب قميصاً في حال الخياطة {فاذكروا ءالآء الله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ} روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوها في الأرض وعمروا أعماراً طوالاً، فنحتوا البيوت من الجبال خشية الانهدام قبل الممات، وكانوا في سعة من العيش فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وصالح من أوسطهم نسباً، فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فأنذرهم، فسألوه أن يخرج من صخرة بعينها ناقة عشراء فصلى ودعا ربه فتمخضت تمخض النتوج بولدها فخرجت منها ناقة كما شاؤوا فآمن به جندع ورهط من قومه.
{قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ} {وَقَالَ} شامي {لِلَّذِينَ استضعفوا} للذين استضعفهم رؤساء الكفار {لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} بدل من {الذين استضعفوا} بإعادة الجار، وفيه دليل على أن البدل حيث جاء كان في تقدير إعادة العامل، والضمير في {مِنْهُمْ} راجع إلى قومه وهو يدل على أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين، أو إلى {الذين استضعفوا} وهو يدل على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ} قالوه على سبيل السخرية {قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} وإنما صار هذا جواباً لهم لأنهم سألوهم عن العلم بإرساله أمراً معلوماً مسلماً كأنهم قالوا: العلم بإرساله وبما أرسل به لا شبهة فيه، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنابه مؤمنون {قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذى ءامَنتُمْ بِهِ كافرون} فوضعوا {آمنتم به} موضع أرسل به رداً لما جعله المؤمنون معلوماً مسلماً {فَعَقَرُواْ الناقة} أسند العقر إلى جميعهم وإن كان العاقر قدار بن سالف لأنه كان برضاهم. وكان قدار أحمر أزرق قصيراً كما كان فرعون كذلك. وقال عليه السلام: «يا علي، أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك» {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} وتولوا عنه واستكبروا وأمر ربهم ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله} أو شأن ربهم وهو دينه {وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا} من العذاب {إِن كُنتَ مِنَ المرسلين فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} في بلادهم أو مساكنهم {جاثمين} ميتين قعوداً. يقال: الناس جثم أي قعود لا حراك بهم ولا يتكلمون {فتولى عَنْهُمْ} لما عقروا الناقة {وَقَالَ يا قَوْمِ} عند فراقه إياهم {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين} الآمرين بالهدى لاستحلاء الهوى والنصيحة منيحة تدرأ الفضيحة، ولكنها وخيمة تورث السخيمة.
روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء فقال صالح: تعيشون بعده ثلاثة أيام، تصفر وجوهكم أول يوم، وتحمر في الثاني، وتسود في الثالث، ويصيبكم العذاب في الرابع وكان كذلك. روي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي، فلما علم أنهم هلكوا رجع بمن معه فسكنوا ديارهم. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي واذكر لوطاً {وإذ} بدل منه {أَتَأْتُونَ الفاحشة} أتفعلون السيئة المتمادية في القبح {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا} ما عملها قبلكم والباء للتعدية ومنه قوله عليه السلام: «سبقك بها عكاشة» {مّنْ أَحَدٍ} {من} زائدة لتأكيد المنفي وإفادة معنى الاستغراق {مّن العالمين} {من} للتبعيض وهذه جملة مستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله {أَتَأْتُونَ الفاحشة} ثم وبخهم عليها فقال أنتم أول من عملها. وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال}-أئنكم لتأتون الرجال- بيان لقوله {أَتَأْتُونَ الفاحشة} والهمزة مثلها في {أَتَأْتُونَ} للإنكار. {إِنَّكُمْ} على الإخبار: مدني وحفص. يقال: أتى المرأة إذا غشيها {شَهْوَةً} مفعول له أي للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة، ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم بالبهيمية {مّن دُونِ النساء} أي لا من النساء {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء فمن ثمّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد.
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ} أي لوطاً ومن آمن معه يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط من إنكار الفاحشة، ووصفهم بصفة الإسراف الذي هو أصل الشر، ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يدّعون الطهارة ويدعون فعلنا الخبيث عن ابن عباس رضي الله عنهما: عابوهم بما يتمدح به {فأنجيناه وَأَهْلَهُ} ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين {إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} من الباقين في العذاب، والتذكير لتغليب الذكور على الإناث وكانت كافرة موالية لأهل سدوم، وروي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً قالوا: أمطر الله عليهم الكبريت والنار. وقيل: خسف بالمقيمين منهم وأمطرت حجارة على مسافريهم. وقال أبو عبيدة: أمطر في العذاب ومطر في الرحمة {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} الكافرين.
{وإلى مَدْيَنَ} وأرسلنا إلى مدين وهو اسم قبيلة {أخاهم شُعَيْباً} يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين {قَالَ يَا قَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي معجزة وإن لم تذكر في القرآن {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان} أتموهما والمراد فأوفوا الكيل ووزن الميزان، أو يكون الميزان كالميعاد بمعنى المصدر {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} ولا تنقصوا حقوقهم بتطفيف الكيل ونقصان الوزن، وكانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعتهم.
(وبخس) يتعدى إلى مفعولين وهما الناس وأشياءهم تقول: بخست زيداً حقه أي نقصته إياه {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إصلاحها} بعد الإصلاح فيها أي لا تفسدوا فيها بعدما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء والأولياء. وإضافته كإضافة {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33] أي بل مكركم في الليل والنهار {ذلكم} إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض {خَيْرٌ لَّكُمْ} في الإنسانية وحسن الأحدوثة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} مصدقين لي في قولي {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط} بكل طريق {تُوعَدُونَ} من آمن بشعيب بالعذاب {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} عن العبادة {مَنْ ءامَنَ بِهِ} بالله وقيل: كانوا يقطعون الطرق. وقيل: كانوا عشارين {وَتَبْغُونَهَا} وتطلبون لسبيل الله {عِوَجَا} أي تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة غير مستقيمة لتمنعوهم عن سلوكها. ومحل {تُوعَدُونَ} وما عطف عليه النصب على الحال أي لا تقعدوا موعدين وصادين عن سبيل الله وباغين عوجاً {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً} {إذ} مفعول به غير ظرف أي واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم {فَكَثَّرَكُمْ} الله ووفر عددكم. وقيل: إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا {وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح وهود ولوط عليهم السلام {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا} فانتظروا {حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} أي بين الفريقين بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم، وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله تعالى منهم، أو هو حث للمؤمنين على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم، أو هو خطاب للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار، والكافرون على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب. {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} لأن حكمه حق وعدل لا يخاف فيه الجور.


{قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم وإما عودكم في الكفر {قَالَ} شعيب {أَوَلَوْ كُنَّا كارهين} الهمزة للاستفهام والواو للحال تقديره أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ومع كوننا كارهين قالوا: نعم. ثم قال شعيب {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ} وهو قسم على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} خلصنا الله. فإن قلت: كيف قال شعيب {إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ} والكفر على الأنبياء عليهم السلام محال؟ قلت: أراد عود قومه إلا أنه يضم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب {وَمَا يَكُونُ لَنَا} وما ينبغي لنا وما يصح {أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا} إلا أن يكون سبق في مشيئته أن نعود فيها إذ الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى خيرها وشرها {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} تمييز أي هو عالم بكل شيء فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول وقلوبهم كيف تتقلب {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} أي الحكم والفتاحة الحكومة والقضاء بالحق بفتح الأمر المغلق فلذا سمي فتحاً، ويسمي أهل عمان القاضي فتاحاً {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} كقوله {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} {وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون} مغبونون لفوات فوائد البخس والتطفيف باتباعه لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية. وجواب القسم الذي وطأته اللام في {لَئِنِ اتبعتم} وجواب الشرط {إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون} فهو ساد مسد الجوابين {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} الزلزلة {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين} ميتين {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} مبتدأ خبره {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} لم يقيموا فيها. غني بالمكان أقام {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} مبتدأ خبره {كَانُواْ هُمُ الخاسرين} لا من قالوا لهم إنكم إذاً لخاسرون وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل: الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا كأن لم يقيموا في دارهم، لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه فهم الرابحون، وفي التكرار مبالغة واستعظام لتكذيبهم ولما جرى عليهم.
{فتولى عَنْهُمْ} بعد أن نزل بهم العذاب {وَقَالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسى} أحزن {على قَوْمٍ كافرين} اشتد حزنه على قومه، ثم أنكر على نفسه فقال: كيف يشتد حزني على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم، أو أراد لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والتحذير مما حل بكم فلم تصدقوني فكيف آسى عليكم {وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ} يقال لكل مدينة قرية، وفيه حذف أي فكذبوه {إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأساء} بالبؤس والفقر {والضراء} الضر والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم، أو هما نقصان النفس والمال {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء، والمحنة: الرخاء والسعة والصحة {حتى عَفَواْ} كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم (عفا النباب) إذا كثر، ومنه قوله عليه السلام: «واعفوا اللحى».
{وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء} أي قالوا هذه عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا نحو ذلك وما هو بعقوبة الذنب فكونوا على ما أنتم عليه {فأخذناهم بَغْتَةً} فجأة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بنزول العذاب.
واللام في {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى} إشارة إلى أهل القرى التي دل عليها {وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ} كأنه قال: ولو أن أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا {ءامَنُواْ} بدل كفرهم {واتقوا} الشرك مكان ارتكابه {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم} {لَفَتَحْنَا} شامي {بركات مّنَ السماء والأرض} أراد المطر والنبات أو لآتيناهم بالخير من كل وجه {ولكن كَذَّبُواْ} الأنبياء {فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بكفرهم وسوء كسبهم، ويجوز أن تكون اللام للجنس {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى} يريد الكفار منهم {أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا} عذابنا {بَيَاتًا} ليلاً أي وقت بيات، يقال بات بياتاً {وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} نهاراً. والضحى في الأصل ضوء الشمس إذا أشرقت. والفاء والواو في {أَفَأَمِنَ} و{أَوَ أَمِنَ} حرفا عطف دخل عليهما همزة الإنكار، والمعطوف عليه {فأخذناهم بَغْتَةً} وقوله {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى} إلى {يَكْسِبُونَ} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وإنما عطفت بالفاء لأن المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى {أَوَ أَمِنَ} شامي وحجازي على العطف ب {أو} والمعنى إنكار الأمن من أحد هذين الوجهين من إتيان العذاب ليلاً أو ضحى، فإن قلت: كيف دخل همزة الاستفهام على حرف العطف وهو ينافي الاستفهام؟ قلت: التنافي في المفرد لا في عطف جملة على جملة لأنه على استئناف جملة بعد جملة {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} يشتغلون بما لا يجدي عليهم.
{أَفَأَمِنُواْ} تكرير لقوله {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى} {مَكْرَ الله} أخذه العبد من حيث لا يشعر.
وعن الشبلي قدس الله روحه العزيز: مكره بهم تركه إياهم على ما هم عليه. وقالت ابنة الربيع بن خيثم لأبيها: مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال: يا بنتاه إن أباك يخاف البيات أراد قوله {أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا} {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} إلا الكافرون الذين خسروا أنفسهم حتى صاروا إلى النار.
{أَوَلَمْ يَهْدِ} يبين {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ} {أَن لَّوْ نَشَاء} مرفوع بأنه فاعل {يَهْدِ} {وأن} مخففة من الثقيلة أي أولم يهدِ للذين يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثونهم أرضهم هذا الشأن، وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم فأهكلنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين، وإنما عدي فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين {وَنَطْبَعُ} مسأنف أي ونحن نختم {على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} الوعظ {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا} كقوله {هذا بَعْلِى شَيْخًا} [هود: 72] في أنه مبتدأ وخبر وحال، أو تكون {القرى} صفة {تِلْكَ} و{نَقُصُّ} خبراً والمعنى: تلك القرى المذكورة من قوم نوح إلى قوم شعيب نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزات {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} عند مجيء الرسل بالبينات {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} بما كذبوا من آيات الله من قبل مجيء الرسل، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولاً حين جاءتهم الرسل أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرين مع تتابع الآيات، واللام لتأكيد النفي. {كذلك} مثل ذلك الطبع الشديد {يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} لما علم منهم أنهم يختارون الثبات على الكفر {وَمَا وَجَدْنَا لأَِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ} الضمير للناس على الإطلاق يعني أن أكثر الناس نقضوا عهد الله وميثاقه في الإيمان، والآية اعتراض، أو للأمم المذكورين فإنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن ثم أنجاهم نكثوا {وإن} وإن الشأن والحديث {وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين} لخارجين عن الطاعة، والوجود بمعنى العلم بدليل دخول {إن} المخففة واللام الفارقة، ولا يجوز ذلك إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما.


{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} الضمير للرسل في قوله {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} أو للأمم {موسى بئاياتنا} بالمعجزات الواضحات {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا} فكفروا بآياتنا، أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] أو فظلموا الناس بسببها حين آذوا من آمن، أو لأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً حيث وضعوا الكفر غير موضعه وهو موضع الإيمان {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} حيث صاروا مغرقين {وَقَالَ موسى يافرعون} يقال لملوك مصر (الفراعنة) كما يقال لملوك فارس (الأكاسرة)، وكأنه قال: يا ملك مصر واسمه قابوس أو الوليد بن مصعب بن الريان {إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ العالمين} إليك. قال فرعون: كذبت. فقال موسى: {حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق} أي أنا حقيق على قول الحق أي واجب على قول الحق أن أكون قائله والقائم به. {حَقِيقٌ عَلَىَّ} نافع أي واجب عليّ ترك القول على الله إلا الحق أي الصدق، وعلى هذه القراءة تقف على {العالمين} وعلى الأول يجوز الوصل على جعل {حَقِيقٌ} وصف الرسول، و{علي} بمعنى الباء كقراءة أبي أي إني رسول خليق بأن لا أقول، أو يعلق {على} بمعنى الفعل في الرسول أي إني رسول حقيق جدير بالرسالة أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مِّن رَبُّكُمْ} بما يبين رسالتي {فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل} فخلهم يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم. وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي غلب فرعون على نسل الأسباط واستعبدهم فأنقذهم الله بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام {مَعِىَ} حفص {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ} من عند من أرسلك {فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فأتني بها لتصح دعواك ويثبت صدقك فيها {فَأُلْقِىَ} موسى عليه السلام {عصاه} من يده {فَإِذَا هِىَ} {إِذَا} هذه للمفاجأة وهي من ظروف المكان بمنزلة (ثمة) و(هناك) {ثُعْبَانٌ} حية عظيمة {مُّبِينٌ} ظاهر أمره. روي أنه كان ذكراً فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً، وضع لحيه الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون فهرب وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك، وحمل على الناس فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً، فصاح فرعون: يا موسى خذه وأنا أومن بك فأخذه موسى فعاد عصاً {وَنَزَعَ يَدَهُ} من جيبه {فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين} أي فإذا هي بيضاء للنظارة، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجمع الناس للنظر إليه.
روي أنه أرى فرعون يده وقال: ما هذه؟ فقال: يدك ثم أدخلها في جيبه ونزعها فإذا هي بيضاء غلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة.
{قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} عالم بالسحر ماهر فيه قد خيل إلى الناس العصاحية والآدم أبيض. وهذا الكلام قد عزي إلى فرعون في سورة (الشعراء) وأنه قال للملأ، وهنا عزي إليهم فيحتمل أنه قد قاله هو وقالوه هم فحكي قوله ثمّة وقولهم هنا، أو قاله ابتداء فتلقنه منه الملأ فقالوه لأعقابهم {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ} يعني مصر {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} تشيرون من آمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي، وهو من كلام فرعون قاله للملأ لما قالوا له {إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم} {قَالُواْ أَرْجِهْ} بسكون الهاء: عاصم وحمزة أي أخر واحبس أي أخر أمره ولا تعجل، أو كأنه هم بقتله فقالوا: أخر قتله واحبسه ولا تقتله ليتبين سحره عند الخلق {وَأَخَاهُ} هرون {وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين} جامعين.
{يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ} {سَحَّارٍ}: حمزة وعلي. أي يأتوك بكل ساحر عليم مثله في المهارة أو بخير منه {وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ} يريد فأرسل إليهم فحضروا {قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا} على الخبر وإثبات الأجر العظيم حجازي وحفص. ولم يقل {فقالوا} لأنه على تقدير سؤال سائل ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله {قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا} لجعلاً على الغلبة. والتنكير للتعظيم كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر عظيم {إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ} إن لكم لأجراً {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} عندي فتكونون أول من يدخل وآخر من يخرج، وكانوا ثمانين ألفاً أو سبعين ألفاً أو بضعة وثلاثين ألفاً {قَالُواْ يا موسى إَمَا أَن تُلْقِىَ} عصاك {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} لما معنا، وفيه دلالة على أن رغبتهم في أن يلقوا قبله حيث أكد ضميرهم المتصل بالمنفصل وعرف الخبر {قَالَ} لهم موسى عليه السلام {أَلْقَوْاْ} تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل المتناظرون قبل أن يتحاوروا الجدال، وقد سوغ لهم موسى ما رغبوا فيه ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم واعتماداً على أن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً {فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس} أروها بالحيل والشعوذة وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. روي أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي أمثال الحيات قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضاً {واسترهبوهم} وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا رهوبتهم بالحيلة {وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} في باب السحر أو في عين من رآه.
{وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ}- تلقف- تبتلع {تَلْقَفْ} حفص {مَا يَأْفِكُونَ} {ما} موصولة أو مصدرية يعني ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه، أو إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك. روي أنها لما تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى فرجعت عصاً كما كانت، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة، أو فرقها أجزاء لطيفة قالت السحرة: لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا {فَوَقَعَ الحق} فحصل وثبت {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْلَمُونَ} من السحر {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ} أي فرعون وجنوده والسحرة {وانقلبوا صاغرين} وصاروا أذلاء مبهوتين {وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين} وخروا سجداً لله كأنما ألقاهم ملقٍ لشدة خرورهم، أو لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا فكانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة {قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين رَبّ موسى وهارون} هو بدل مما قبله {قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ} على الخبر: حفص. وهذا توبيخ منه لهم. وبهمزتين: كوفي غير حفص. فالأولى همزة الاستفهام ومعناه الإنكار والاستبعاد {قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ} قبل إذني لكم {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الصحراء لغرض لكم وهو {أن تَخْرُجُواْ مِن مّصْرَ القبط وتسكنوا بني إسرائيل} {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعيد أجمله ثم فصله بقوله:
{لأَقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} من كل شق طرفاً {ثُمَّ لأَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} هو أول من قطع من خلاف وصلب {قَالُواْ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} فلا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته، أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون نقلب إلى الله فيحكم بيننا {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بئايات رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا} وما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، أرادوا وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر وهو الإيمان ومنه قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي اصبب صباً ذريعاً. والمعنى هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا حتى يفيض علينا ويغمرنا كما يفرغ الماء إفراغاً {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ثابتين على الإسلام {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض} أرض مصر بالاستعلاء فيها وتغيير دين أهلها لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفر {ويذرك وءالهتك} عطف على {لِيُفْسِدُواْ} قيل: صنع فرعون لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه كما يعبد عبدة الأصنام الأصنام ويقولون ليقربونا إلى الله زلفى، ولذلك {قَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] {قَالَ} فرعون مجيباً للملإ {سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون} {سَنُقَتّلُ} حجازي أي سنعيد عليهم قتل الأبناء ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي تحدث المنجمون بذهاب ملكنا على يده فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا} قال لهم ذلك حين جزعوا من قول فرعون سنقتل أبناءهم تسلية لهم ووعداً بالنصر عليهم {إِنَّ الأرض} اللام للعهد أي أرض مصر أو للجنس فيتناول أرض مصر تناولاً أولياً {للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} فيه تنميته إياهم أرض مصر {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط. وأخليت هذه الجملة عن الواو لأنها جملة مستأنفة بخلاف قوله {وَقَالَ الملأ} لأنها معطوفة على ما سبقها من قوله {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ} {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى إلى أن استنبئ وإعادته عليهم بعد لك، وذلك اشتكاء من فرعون واستبطاء لوعد النصر {قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض} تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل وكشف عنه وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم. وعن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان، وطلب المنصور زيادة لعمرو فلم توجد فقرأ عمرو هذه الآية، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال: قد بقي {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6